عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟
قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.
وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)
الإنسان مجبول بخواص، يلزمه للاستقامة تهذيب كثير منها، فزين الله للناس حب الشهوات، مصداقاً لقوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14)، وهذا التزيين يحتاج إلى ضبط وتهذيب، لأن الاندفاع معه دون كوابح يفسد منظومة القيم والأخلاق، ويؤثر سلباً في سوية الحياة والمعاش.
ومن خواص الإنسان التي ينبغي تهذيبها العجلة والاستعجال، فليس كل ما يتمنى المرء يحدث بالعجلة المرغوبة أو المتمناة، سواء تعلقت بوجود المرغوبات، أم بإزالة المكروهات، ففي كثير من الأحيان تحتاج الأمور إلى وقت لتتحقق، وفي بعض الأحيان يتعذر تحقق المراد لسبب ما، كما يقول المتنبي:
ما كلُّ ما يتمنى المرء يدركهُ تجري الرياح بما لا تشتهي السُّفنُ
وعن تساؤل مفاده: لِمَ نهاهم عن الاستعجال مع قوله: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ}(الأنبياء:37)، وقوله: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا}(الإسراء:11)، أليس هذا من تكليف ما لا يُطاق؟
يجيب الزمخشري فيقول: هذا كما ركب فيه الشهوة، وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة، وترك العجلة. (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، 3 /117)
«وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
حديث خباب، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، المتضمن إخباراً عن شكوى بعض الصحابة إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، من شدة المعاناة، وطلبهم دعاء الله لينصرهم، ويفرج كربهم، ويخلصهم مما هم فيه من بلاء، وبعد أن رد صلى الله عليه وسلم، على شكواهم بذكر صورة للألم، وأخرى للأمل، وهذا الرد الذي أكد فيه حتمية انتصار الإسلام، وانتشار الأمن والرخاء به، ختم بالإشارة إلى إحدى خواص الناس؛ أنهم يستعجلون «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» ما يجعلهم في بعض الأحيان يندفعوا أو يلهثوا لتحصيل ما يريدون، ويتحسرون حين لا يجابون، والحقيقة أن الأمر لله من قبل ومن بعد، ولا يكون شيء في ملكوته سبحانه إلا بقدر معلوم، وإذا أراد سبحانه شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وإن لم يرد فلا يكون، سواء استعجل الناس أم لم يستعجلوا.
والمسلمون اليوم وهم يتعرضون لمعاناة قاسية، قد يبادر بعضهم بسببها لرفع شكوى إلى الله، كالتي رفعها الذين شكوا حالهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مما يدفع للتأمل في رده صلى الله عليه وسلم، على تلك الشكوى، مع التركيز على التعقيب المشار إليه آنفاً، والمتضمن في طياته درساً جدير بالدراسة، والتعمق في فهمه، واستنباط الدروس والعبر والعظات منه.
فالاستعجال لا يغير من حقائق الواقع، ولا من كنه النتائج، والصعاب يلزمها صبر، وتقييم واع ومبصر، للخروج منها بأقل الخسائر، والانطلاق لواقع جديد يتحقق فيه النهوض من الكبوات، وجني ثمار الخيرات، وذلك لا يتم بالاستعجال، وإنما تلزمه خطوات جادة وفاعلة، وصبر ومصابرة، ويقين بحتمية التغيير، وإيمان بالحق المنافح عنه، واتّباع منهج سليم، واستخدام وسائل نظيفة طاهرة، لتحقيق الغايات النبيلة المنشودة، ومن الجيد والمفيد مطالعة حوادث الزمان، ووقائع التاريخ، لسبر غورها، وتعزيز اليقين بالخير القادم، وحتمية زوال الشر، والشفاء من الجراح.
خاصية الاستعجال
أشار القرآن الكريم إلى خاصية العجلة والاستعجال التي جبل الله الناس عليها، فقال عز وجل: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء:37)
{خُلِقَ الْإِنْسانُ} يعني آدم، قرأ العامّة: بضم الخاء، وكسر اللام، على غير تسمية الفاعل، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام، يعني خلق الله الإنسان مِنْ عَجَلٍ، اختلفوا فيه، فقال بعضهم: يعني أنّ بنيته وخلقته من العجلة، وعليها طبع، نظيره قوله: {...وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا}(الإسراء:11).
وقال آخرون: معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إيّاه.
وقال بعضهم: هذا من المقلوب مجازه: خلق العجل من الإنسان، كقول العرب: «عرضت الناقة على الحوض» يريدون: عرضت الحوض على الناقة.
وقال أبو عبيد: وكثير من أهل المعاني يقولون: العجل الطين بلغة حمير، وأنشدوا:
النبع تنبت بين الصخر ضاحية ... والنخل ينبت بين الماء والعجل. أي الطين.(*)
{سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} بالعذاب وسؤال الآيات، وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا من العذاب؟ وقيل: القيامة، وتقديره الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. (تفسير الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، 6 /275-276)
وبدافع العجلة يهرول الإنسان ساعياً لنيل ميزات قد يكون الشر كامناً فيها، أو يطلب الشر لنفسه أو لمحبيه في ظروف عارضة، والله تعالى يقول: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (الإسراء:11)، ربَّما المراد هنا أن الإنسان يدعو على نفسه عند الغضب والضَّجر، وعلى ولده وأهله، بما لا يحبُّ أن يستجاب له، كما يدعو لنفسه بالخير {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} يعجل في الدُّعاء بالشَّرِّ، كعجلته في الدُّعاء بالخير. (الوجيز للواحدي، 1/629)
وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء، أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم، والله تعالى يقول: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال:32)
وهذا يَعْنِي: أَن الإنسان يعجل بِدُعَاء الشَّرّ، وَالله لَا يعجل بالإجابة. (تفسير السمعاني، 3 /222-223/بتصرف)
ما أشبه آلام اليوم بجراح البارحة
الله الذي يقلب الليل والنهار كل يوم، يقلب الأحوال والظروف بين حين وآخر، وقد أخبر الله عن مداولة الأيام بين الناس بأمره سبحانه، فقال عز وجل: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران:140)، فلا خير يدوم، ولا شر يستمر لما لا نهاية، وكما يذكر الحكماء، ومنهم الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الذي يروى عنه قوله: الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر ولا تضجر.
وقد أصابت المسلمين والرسول، صلى الله عليه وسلم، يقودهم محن وجراح، كالتي حدثت في غزوة أحد، التي سُبقت بنصرهم المؤزر في بدر، وهكذا الأيام دُول، وها هي الجراح تنزف منها دماؤنا، ويرتقي في ظلها الشهداء تلو الشهداء، في أجواء عصيبة تكالبت علينا فيها الأمم، وتدنست مقدساتنا، ونهبت خيراتنا، أو خربت أشد تخريب، وتشتت كلمتنا، وما زلنا نغرق في ظلام دامس، وبؤس شديد، وسبق أن مرت على أسلافنا في حقب الزمان الغابرة زمن التتار والصليبيين وغيرهم ظروف صعبة، لا نريد أن نقول إن ظرفنا أشد قسوة منها أو أقل، لكن المؤكد أن الصعوبة البالغة قاسم مشترك يجمع حاضرنا ببعض ماضينا، والموعظة التي ينبغي أن لا تفوتنا، أن نحافظ على رباطة الجأش، وأن نصمد أمام أعاصير الابتلاءات، ولا خير فينا ولا بنا إن فشلنا في الامتحان الصعب الذي أشار إليه سبحانه في كثير من آيات التنزيل، ومنها في الآية 140 من سورة آل عمران آنفة الذكر، حيث عقب سبحانه على ذكر سنة مداولة الأيام والجراح، بقوله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ليعلمهم مميزين بالإيمان من غيرهم، أي: إنما يجعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة.
والمعنى: ليقع ما علمه غيباً مشاهدة للناس، وليعلم ذلك كائناً موجوداً كما علمه غيباً. والمجازاة إنما تقع بما يعلمه موجوداً، لا بما علمه غيباً.
وقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} أي: وليكرم قوماً بالشهادة.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يعني المشركين.
وفي هذا إشارة إلى أنه إنما يديل الكافرين على المؤمنين لما ذكر، لا لأنه يحبهم.
وإذا أدال المؤمنين أدالهم نصرة لهم، ومحبة منه إياهم. (تفسير الوسيط للواحدي، 1 497)
وقيل: مَعْنَاهُ: وليعلم الصابرين على الجِهَاد فِي مَوَاطِن الْجِهَاد، ليعاملهم مُعَاملَة من يبتليهم؛ فيعلمهم، وَالْعلم بِالْجِهَادِ فِي مَوَاطِن الْجِهَاد إِنَّمَا يَقع بعد وُقُوع الْجِهَاد، وَقيل: الْعلم الأول: علم الْغَيْب، وَقَوله: {وليعلم} يَعْنِي: علم الْمُشَاهدَة، والوقوع والمجازاة على علم الْوُقُوع لَا على علم الْغَيْب. (تفسير السمعاني، 1 /361)
فهذه إطلالة على هدي قرآني ونبوي يُحتاج إليهما في ضوء الظروف العصيبة التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام العصيبة، بخاصة في بلادنا فلسطين الأبية، يرجى أن يفيد الوقوف عنده، في طمأنة النفوس، وتعزيز الثبات على الحق، مهما بلغت شدة الخطب، وعمق الجراح، ويؤمل متابعة المزيد من جوانب هذه الإطلالة في الحلقة القادمة، لاستنباط مزيد من المعاني والدروس بالخصوص من هدي القرآن الكريم، وسنة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الهامش
*نقلاً عن لسان العرب: 11/ 428 ، والعبارة: والنبع في الصخرة الصمّاء منبتة. والنخل ينبت بين الماء والعجل.
8 ربيع الآخر 1446هـ