الخطبة الأولى :
الحمد لله جعل خالص الأعمال سبباً لتفريج الكروب،وأمر عباده بإخلاص النية في القول والعمل: فقال تعالى:{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليليه،أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلاة الله وسلامه على النبي المصطفى والرسول المجتبى، وعلى آله الطاهرين المستكملين الشرفا، وصحابته الميامين أقمار الهداية ومصابيح الدجى، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واستن سنتهم إلى يوم البعث واللقاء.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } (فصلت:46).
أيها المسلمون: أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس:
ما أحوجنا في هذه الأيام التي ضاقت فيها السبل وانقطع الرجاء إلا من الله تعالى أن نلجأ إلى الله داعين ضارعين متوسلين بصدق النوايا وإخلاص الأعمال لله تعالى، عسى الله جل وعلا أن يفرج الكرب، ويزيل الهم، ويجعل من بعد عسر يسراً ولنا في سيرة المصطفى وهديه عليه الصلاة والسلام خير أسوة، فقد روى عبد الله ابن عمر – رضي الله عنهما – قال:" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم وقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي" (صحيح مسلم، الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال)
أيها المسلمون: يا إخوة الإيمان في كل مكان
إنه هدي شريف وتوجيه كريم من رسول الله r إذا ضاقت الأحوال أن يتوجه العبد المؤمن بالدعاء إلى الله تعالى والتوسل بصالح عمله وخالص نيته، إذ قبول الأعمال والأقوال عند الله تعالى مرتبط بنوايا فاعليها وقائليها، فهو جل وعلا يعلم السر وأخفى، ويعلم خفايا الصدور، فإذا خلصت النية لله في القول والعمل كان ذلك أدعى للقبول، فالله تعالى لا يقبل من الأعمال أو الأقوال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم بعيداً عن كل مظاهر الشرك والرياء المحبطين للقول والعمل، فالله يقول:{ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة: 284).
وقد يمتحن الله عباده ليمحص نواياهم وأعمالهم ويكشف لهم عن وجه حكمته ورضاه عنهم في هذا التمحيص أو الابتلاء {وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(آل عمران:154). {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} (آل عمران:140).
أيها المسلمون: يا أبناء ديار الإسراء والمعراج
لقد مر النفر الذين ذكرهم رسول الله r في هذا الحديث الشريف بامتحان عملي ملموس ومحسوس، فقد انزلقت الصخرة على باب الغار الذي أواهم ولا سبيل لخروجهم منه بعمل مادي يقومون به، فلا طاقة لهم بزحزحة الصخرة عن باب الغار كما لا غوث يأتيهم في هذا الخلاء البعيد عن الحياة والأحياء إلا من الله تعالى، وقد انطبق على حالهم قول الحق تعالى:{ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} (التوبة:118)، فلجأوا إلى الله يدعونه ويتوسلون إليه بصالح أعمالهم لتفريج الكرب والبلاء عنهم، ويستجيب لهم من يجيب المضطر إذا دعاه {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(النمل:62).
فهلا لجأنا جميعاً إلى الله ندعوه بصالح أعمالنا وخالص نوايانا، وقد أغلق الاحتلال علينا كل منافذ النجاة، وراح يمارس كل وسائل القهر والعدوان على أبناء شعبنا من اجتياح للمدن والقرى والمخيمات وقتل الأبرياء من أبناء شعبنا، وإغلاق المؤسسات ومصادرة محتوياتها، بل وصل الأمر إلى تدنيس المقدسات والعبث فيها، بعد إمعانه في مواصلة سياسة الاستيطان وبناء المستعمرات والمستوطنات ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية مما أدى إلى لجوء أبناء شعبنا داخل الوطن.
إنه البلاء الذي لا يرفعه إلا صدق الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء وإخلاص العمل عسى الله أن يجعل من بعد عسر يسراً ويرد الذين كفروا بغيظهم ويصرف السوء، إنه على كل شيء قدير.
فبادروا عباد الله إلى صالح الأعمال واسألوا الله قبولها، وادعوه بها لعل الله تعالى يفرج عنا ما نحن فيه، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي العباس عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما - عن رسول الله r فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال:" قال الله عز وجل إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله " (صحيح مسلم، الإيمان، إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب).
أو كما قال
فيا فوج المستغفرين استغفروا الله
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الغر الميامين ومن سار على نهجهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
وبعد أيها المسلمون:
لقد بين لنا هدي النبي r أن أعمال الخير والطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى سبب لتفريج الكرب وإزالة الشدة،كما أن أعمال الشر والفساد والمنكرات سبب في نزول البلاء وضيق الحال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30).
وقد فرج الله تعالى كرب أولئك النفر الذين أغلقت الصخرة عليهم باب الغار لما دعوا الله بصالح أعمالهم التي عملوها وهم يقصدون بها وجه الله تعالى ويطلبون رضاه وقد اشتملت أعمالهم على بر الوالدين والابتعاد عن فاحشة الزنى والحرص على إعطاء العامل أجره كاملاً غير منقوص.
فلما اطلع الله تعالى على صدق نواياهم وإخلاصهم في أعمالهم كان دعاؤهم مستجاباً وكان فرج الله قريباً منهم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186).
فهلا أقبلنا على الله تعالى بصالح الأعمال وصدق النوايا ونبذنا هذه المنكرات والمعاصي التي عمت المجتمع، وقطعت الأرحام والصلات، وأفسدت الأخلاق، ودمرت القيم، وفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً حتى غدا الناس لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، والرسول r يقول:" والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" (مسند أحمد،باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم).
نعوذ بالله تعالى من المنكر والفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله تعالى أن يمن على المسلمين بعفوه، ويهديهم إلى سواء الصراط إنه سميع قريب مجيب.
فبادروا عباد الله إلى صالح الأعمال مستحضرين الإخلاص فيها إلى الله تعالى، ابتغاء وجهه،وتقرباً إليه، عساه تعالى أن ندعوه بصالح أعمالنا فيستجيب لنا، ويكشف عنا ما نحن فيه من فرقة وبلاء، فهو سبحانه الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، ويثيب على القليل كثيراً، ويعطي بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعف لمن يشاء، وهو الغفور الرحيم.